ظل الإسلام حينا من الدهر يقاوم التغريب والعولمة، فكان سدا منيعا في وجه من أرادوا هدم الأخلاق والقيم، وظل علماء الإسلام – على قلتهم – يواجهون وحدهم، وبصدور عارية، خناجر الظلاميين الذين يريدون أن يطفئوا نور الله في قلوب الخلائق بأفواههم.
لكن المقاومة الشرسة كانت تزداد ضعفا كل صباح، ليكسب أهل الضلال أرضا جديدة في الفضاء السحابي الشاسع.
وهكذا، ظلت المساحات في غرفة العالم المكتظة بالناس من كل فج تضيق بالأديان حتى نحتها، أو كادت، عن المشهد المعاصر.
فهل يعلن العلماء المسلمون إفلاسهم الحضاري قريبا، وهل يتنحون طواعية عن المشهد ليتركوا الساحة للمشركين والرويبضة ليضلوا الناس بغير علم تمهيدا لغربة منتظرة للإسلام وأهله؟ أم يحاولون لملمة ما تبقى لهم من حشود استعدادا لنفرة أخيرة نصرة للحق وأهله؟
كل الشواهد تشير إلى تراجع دور الدين في حياة الناس ومعاملاتهم.
ويكفيك ان تلقي نظرة على حجم الجرائم الأخلاقية وتنوعها هذه الأيام.
ويكفيك ان تنزل من برج الكلمات إلى ساحة المعاملات، لتعرف أن البقية الباقية في قلوب الناس من دين لم تعد تغني ولا تسمن من نفاق.
ويكفيك أن تشاهد تبجح المبطلين والفسقة والمرتدين وتسمع إلى حججهم المتهافتة في وسائل الإعلام كل مساء لتعلم إلى أي حمأة وصلنا وأي درك فكري بلغنا.
فهل نلوم علماء الدين على ما وصلت إليه البشرية من انحلال؟ وهل تبشر قراءات الواقع المهين بأي تغيير للأفضل؟
لا شك أن انسحاب العلماء من الساحة، وترك الميدان لمن يهرفون بما لا يعرفون من علماء الشاشات الفضية قد أثر سلبا في نفوس الذين في نفوسهم زيغ، والذين في قلوبهم مرض.
فقد استغل المرجفون خروج العلماء من المشهد ليتصدروا المشاهد بعمائم تكاد تميل برؤوسهم الخاوية يمنة ويسرة، فيفتون بجهل في أمور العامة، فيضلون ويضلون.
فيراهم العامة من الناس يخبطون في الدين خبط عشواء، ويشاهدونهم يتصايحون ويتسابون، ويرفعون أصابعهم وعقائرهم وأحذيتهم في وجوه بعضهم البعض، فتسقط هيبة العلماء، ومن ورائها هيبة الدين، في نفوسهم.
وفي وقت ينشغل فيه علماء الدين بقراءات لا تفيد دينا، ولا تزيد يقينا، ترى أهل الباطل يدخلون في كل يوم سلاحا أشد فتكا من سابقيه، ليأتوا على ما تبقى من حياء وخلق ودين في قلوب النشء، بل وفي نفوس الكبار.
وفي وقت تنشغل فيه الجامعات الإسلامية بمناقشة رسائل علمية لا تقدم ساقا ولا ترفع راية، ترى الإعلام المضل يكسب كل يوم مساحات خالية في قلوب الشباب وعقولهم ليضلهم عن سبيل الله وعن جادة الخلق والقيم والدين.
فلا عجب أن ترى اليوم طوفانا من الإلحاد والزندقة – بين ظهرانينا – غير مسبوق! ولا داع لمصمصة الشفاة وأنت ترى العري والانحلال ينشر أسواقه فوق قارعات طرقنا دون حياء ودون خشية!
يضاف إلى عجز العلماء وقلة حيلتهم وهوانهم على الناس، رواج سوق الفساد داخل المجتمعات، وضعف الوازع الديني والأخلاقي في نفوس العامة، حتى ترى الواحد منهم، فلا تكاد تعرف إن كان لادينيا أو يهوديا أو نصرانيا أو مسلما حتى ترى بطاقة هويته.
فقد نجح الإعلام المعاصر ووسائل التغريب الاجتماعي في تفكيك عرى الأسر ورواج الانحلال الذي لا يكاد ينجو منه أحد إلا من عصمه الله.
يبقى تخلي قادة الدول الإسلامية عن دورهم في حماية عقائد الناس والحفاظ على هوياتهم العرقية والوطنية والدينية واكتفائهم بالدفاع عن الحدود المادية والأسلاك الصدئة عند الحدود حتى تآكلت الروابط الإثنية والدينية، وقلت الحمية وانهارت أواصر المواطنة وتوارت الوطنية، وتلاشت قيمة التراب الوطني وبهتت الوان الأعلام في عيون الشباب، وصار الكل يشبه الكل في هجمة تغريب متعمدة لا يخطؤها متابع.
لا أريد هنا أن أدعو إلى التشاؤم أو أن أزرع بذور اليأس في نفوس القلة المتدينة، التي أصرت على القبض على جمر الدين في زمن الإنحلال الكوني الممنهج. كما لا أريد أن ألقي باللائمة على علماء الدين وحدهم – يعلم الله أننا جميعا مقصرون.
لكنني فقط أريد أن أدق ناقوس خطر صار يتهددنا من المحيط إلى المحيط، وأمسى يضربنا في عمق أصولنا دون أن نمتلك أسلحة واعية ندافع بها عن أنفسنا وأهلينا وأوطاننا، فالهجمة شرسة، والمهاجم بصير.